فصل: تفسير الآيات (24- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 29):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)}
ولما سلب عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان، وأثبت جميع الملك له وحده، أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقررهم بما يلزم منه ذلك فقال: {قل من يرزقكم} ولما كان كل شيء من الرزق متوقفاً على الكونين، وكان في معرض الامتنان والتوبيخ جمع لئلا يدعي أن لشيء من العالم العلوي مدبراً غيره سبحانه فقال: {من السماوات} وقال: {والأرض} بالإفراد لأنهم لا يعلمون غيرها.
ولما كان من المعلوم أنهم مقرّون بأن ذلك لله وحده كما تقدم التصريح به غير مرة، وكان من المحقق أن إقرارهم بذلك ملزم لهم الإخلاص في العبادة عند كل من له أدنى مسكة من عقله، أشار إلى ذلك بالإشارة بأمره صلى الله عليه وسلم بالإجابة إلى أنهم كالمنكرين لهذا، لأن إقرارهم به لم ينفعهم فقال: {قل الله} أي الملك الأعلى وحده، وأمره بعد إقامة هذا الدليل البين بأن يتبعه ما هو أشد عليهم من وقع النبل بطريق لا أنصف منه، ولا يستطيع أحد أن يصوب إليه نوع طعن بأن يقول مؤكداً تنبيهاً على وجوب إنعام النظر في تمييز المحق من المبطل بالانخلاع من الهوى، فإن الأمر في غاية الخطر: {وإنا} أي أهل التوحيد في العبادة لمن تفرد بالرزق {أو إياكم} أي أهل الإشراك به من لا يملك شيئاً من الأشياء و{أو} على بأنها لا بمعنى الواو، أي إن أحد فريقينا على إحدى الحالتين مبهمة غير معينة فهو على خطر عظيم لكونه في شك من أمره غير مقطوع له بالهدى، فانظروا بعقولكم في تعيينه هل هو الذي عرف الحق لأهله أو الذي بذل الحق لغير أهله، قال ابن الجوزي: وهذا كما تقول للرجل تكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وأنت تعنيه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل: والله لقد قدم فلان، فيقول له من يعلم كذبه: قل إن شاء الله، فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب، يعني ولاسيما بعد إقامة الدليل على المراد ثم مثل المهتدين بمن هو على متن جواد يوجهه حيث شاء من الجواد بقوله: {لعلى هدى} أي في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ناظرين لكل ما يمكن أن يعرض فيه مما قد يجر إلى ضلال فتنكبه {أو في ضلال} أي عن الحق في الاعتقاد المناسب فيه منغمسين فيه وهو محيط بالمبتلى به لا يتمكن معه من وجه صواب: {مبين} أي واضح في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال إلا من كان منغمساً فيه مظروفاً له، فإنه لا يحس بنفسه وما بينه وبين أن يستبصر إلا أن يخرج منه وقتاً ما فيعلم أنه كان في حاله ذلك فاعلاً ما لا يفعله من له نوع من العقل، ففي هذا حث على النظر الذي كانوا يأبونه بقوله:
{قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5] ونحوه في الأدلة التي يتميز بها الحق من الباطل على أحسن وجه بأنصف دعاء وألطف نداء حيث شرك الداعي نفسه معهم فيما دعاهم إلى النظر فيه، فالمعنى أنه يتعين على كل منا- إذا كان على إحدى الطريقين مبهمة- أن ينظر في أمر ليسلم فإن الأمر في غاية الوضوح مع أن الضال في نهاية الخطر، ولقد كان الفضلاء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذوو الأحلام والنهى منهم يقولون ذلك بعد الإسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وناهيك بهما جلالاً، ونباهة وذكاء وكمالاً، قالوا: والله كنا نعجب غاية العجب ممن يدخل في الإسلام واليوم نحن نعجب غاية العجب ممن يتوقف عنه.
ولما كانوا بين أمرين: إما أن يسكتوا فيعلم كل سامع أن الحجة لزمتهم، وإما أن يقولوا بوقاحة ومكابرة: أنتم في الضلال ونحن على الهدى، وكان الضال لا يزال يقطع ما ينبغي وصله بوصل ما يجب قطعه، أمره أن يجيبهم على هذا التقدير بما هو أبلغ في الإنصاف من الأول بقوله: {قل لا تسئلون} أي من سائل ما {عما أجرمنا} أي قطعنا فيه ما ينبغي أن يوصل مما أوجبه لنا الضلال {ولا نسئل} أي أصلاً في وقت من الأوقات من سائل ما {عما تعملون} أي مما بنيتموه على العلم الذي أورثكموه الهدى أي فاتركونا والناس غيركم كما أنا نحن تاركوكم، فمن وضح له شيء من الطريقين سلكه.
ولما كانوا إما أن يجيبوا إلى المتاركة فيحصلوا بها المقصود عن قريب، وإما أن يقولوا: لا نترككم، وكان هذا الاحتمال أرجح، أمره أن يجيبهم على تقديره بقوله: {قل يجمع بيننا ربنا} أي في قضائه المرتب على قدره في الدنيا أو في الأخرة، قال القشيري: والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد ويستروحون إلى هذا الآية، وللاجتماع أمر كبير في الشريعة.
ولما كان إنصافهم منهم في غاية البعد عندهم، وكان ذلك في نفسه في غاية العظمة، أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم يفتح} أي يحكم {بيننا} حكماً يسهل به الطريق {بالحق} أي الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه، وهو العدل أو الفضل من غير ظلم ولا ميل. ولما كان التقدير: فهو الجامع القدير، عطف عليه قوله: {وهو الفتاح} أي البليغ الفتح لما انغلق، فلم يقدر أحد على فتحه {العليم} أي البالغ العمل بكل دقيق وجليل مما يمكن فيه الحكومات، فهو القدير على فصل جميع الخصومات.
ولما كانوا قد أنكروا البعث على ذلك الوجه الذي تقدم، ودل على قدرته عليه بما نصب من الأدلة التي شاهدوها من أفعاله بالبصر أو البصيرة إيجاداً وإعداماً، وأقام الحجة على صحة الدعوة وبطلان ما هم عليه، ثم تهددهم بالفصل يوم الجمع، وختم بصفة العلم المحيط المستلزم للقدرة الشاملة، وكانت القدرة لا تكون شاملة إلا عند الوحدانية، أمره بما يوجب لهم القطع بوحدانيته وشمول قدرته بقوله: {قل} أي لهؤلاء المشركين.
ولما كانت آلهتهم تسهل رؤيتها، وكان كل ما هو كذلك سافل المقدار عن هذه الرتبة، وكانت آلهتهم بالخصوص أدنى الأشياء عن ذلك بكونها من أخس الجمادات، نبه على ذلك وعلى أنها نكرة لا تعرف بقلب ولا تدل عليها فطرة زيادة في تبكيتهم بقوله: {أروني الذين} ولما لزم مما ثبت له سبحانه من صفات الكمال العلو الذي لا يداينه أحد بوجه قال: {ألحقتم به} ولما كان الإلحاق يقتضي ولابد قصور الملحق عن الملحق به، أشار إلى فرط جهلهم بتسويتهم به بقوله: {شركاء} ثم نبه بعد إبطال قياسهم على أنهم في غاية الجلافة والجمود فهم كالأنعام بما قرعهم به من الرجز في قوله مؤكداً تكذيباً لهم في دعوى الشرك: {كلا} أي ارتدعوا وانزجروا فليس والله الأمر كما ذكرتم ولا قريب منه {بل هو} أي المعبود بالحق الذي لا يستحق أن يسمى هو غيره {الله} أي الذي اختص بالحمد في الأولى والآخرة {العزيز} أي الذي لا مثل له، وكل شيء محتاج إليه، وهو غالب على كل شيء غلبة لا يجد معها ذلك الشيء وجه مدافعة ولا انقلاب، ولا وصول لشيء إليه إلا بإذنه {الحكيم} أي المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك وأنتم ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك وتعلمون عجز من أشركتموه به عن أن يساويكم مع ما تعلمون من عجزكم.
ولما ختم بوصف الحكمة فتم برهان القدرة التي كان أوجب اعتقادهم لعدم البعث ما يقتضي نقصاً فيها، ولزم عن ذلك التوحيد وبطل الشرك، لم يبق إلا إثبات الرسالة التي أوجب ترديدهم أخباره صلى الله عليه وسلم بين الكذب والجنون الطعن فيها، فعلم أن التقدير: أرسل إليكم رسوله بعزته مؤيداً له بإعجاز هذا القرآن بحكمته دليلاً على صدقه وكماله في جبلته وتأهله لبدائع نعمته ومعالي رحمته، وكان في ذلك دليل الصدق في الرسالة؛ فنسق به قوله معلياً لشأنه بالخطاب في مظهر العظمة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يتدرع جلابيب الصبر على جميع المكارة الصادرة من أنواع الخلق في أداء الرسالة بقوله عاطفاً على {ولقد آتينا داود منا فضلاً} مؤكداً تكذيباً لمن يدعي الخصوص: {وما أرسلناك} أي بعظمتنا {إلا كآفة} أي إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا، تكفهم عما لعلهم أن ينتشروا إليه من متابعة الأهوية، وتمنعهم عن أن يخرج عنها منهم أحد، فالتاء في {كافة} للمبالغة، وعبارة ابن الجوزي: أي عامة لجميع الخلائق {للناس} أي كل من فيه قابلية لأن ينوس من الجن والإنس وغيرهم من جميع ما سوى الله وإن آذوك بكل أذى من النسبة إلى الافتراء أو الجنون أو غيرهما، فحال الإرسال محصور في العموم للغرض الذي ذكر من التدرع لحمل المشاق، لا في الناس، فإنه لو أريد ذلك لقدموا فقيل: إلا للناس كافة، وقد مضى في أوائل الأنعام عن السبكي ما ينفع هنا، والمعنى أن داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير والحديد، وسليمان عليه السلام بما ذكر له، ففضيلتك أنت بالإرسال إلى كل من يمكن نوسه، فالحصا سبحت في كفك، والجبال أمرت بالسير معك ذهباً وفضة، والحمرة شكت إليك أخذ فراخها أو بيضها، والضب شهد لك، والجمل شكا إليك وسجد لك، والأشجار أطاعتك، والأحجار سلمت عليك وائتمرت بأمرك إلى غير ذلك من كل من ينوس بالفعل أو القابلية- والله أعلم، وأما الجن فحالهم مشهور، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور، وفي دلائل النبوة في باب التحدث بالنعمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية دليل على فضل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنبياء بعموم الرسالة للإنس والجن.
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار، وكان في ذكرها رد قولهم في الكذب والجنون، قال: {بشيراً ونذيراً} أي لمن أهل للبشارة أو النذارة. ولما كان هذا الإرسال مقروناً بدليله من الإتيان بالمعجز من نفسه من جهة البلاغة في نظمه وبالمعاني المحكمة في البشارة والنذارة وغير ذلك، قلب عليهم قولهم الذي لا دليل عليه ولا شبهة تصوب إليه في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله الذي هو أوضح من الشمس دليلاً، وأقوم كل قيل قيلاً: {ولكن} ولما كان الناس الأولين كل من ديه قابلية النوس وهم جميع الخلائق وأكثرهم غير عاص، أظهر مريداً الثقلين من الجن والإنس فقال: فأكثر الناس لا يعلمون أي ليس لهم قابلية العلم فيعلموا أنك رسول الله فضلاً عن أن إرسالك عام، بل هم كالأنعام، فهم لذلك لا يتأملون فيقولون: افترى أم به جنة ونحو هذا من غير تدبر لما في هذا الكتاب من الحكمة والصواب مع الإعجاز في حالي الإطناب والإيجاز، والإضمار والإبراز، فيحملهم جهلهم على المخالفة والإعراض.
ولما سلب عنهم العلم، أتبعه دليله، فقال معبراً بصيغة المضارعة الدال على ملازمة التكرير للإعلام بأنه على سبيل الاستهزاء لا الاسترشاد: {ويقولون} أي ما أرسلناك إلا على هذا الحال والحال أن المنذرين يقولون جهلاً منهم بعاقبة ما يوعدونه غير مفكرين به في وجه الخلاص منه والتفصي عنه في كل حين استهزاء منهم: {متى هذا الوعد} أي بالبشارة والنذارة في يوم الجمع وغيره فسموه وعداً زيادة في الاستهزاء. ولما كان قول الجماعة أجدر بالقبول، وأبعد عن الرد من قول الواحد، أشار إلى زيادة جهلهم بقوله: {إن كنتم} أي أيها النبي وأتباعه! كوناً أنتم عريقون فيه {صادقين} أي متمكنين في الصدق.

.تفسير الآيات (30- 33):

{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}
ولما تبين من سؤالهم أنه لم يكن للاسترشاد وإن هم بالغوا به في التكذيب والاستهزاء بعد الإبلاغ في إقامة الأدلة، أمره بأن يجيبهم بما يصلح للمعاند من صادع التهديد بقوله: {قل لكم} أي أيها الجامدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات، ولا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات، مع ضعفهم عن الدفاع، والمبالغة والامتناع {ميعاد يوم} أي لا تحتمل العقول وصف عظمه لما يأتي فيه من العقاب سواء كان يوم الموت أو البعث. ولما كان تعلق النفوس بالمهلة عظيماً، قال: {لا تستأخرون} أي لا يوجد تأخركم ولا يمكن أن يطلب لحثيث الطلب وتعذر الهرب {عند ساعة} لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم، ولذلك قال: {ولا تستقدمون} أي لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك.
ولما دل سبحانه بملازمتهم للاستهزاء بهذا الإنذار على أنهم غير منفكين عن مذاهب الكفار، ذكر تصريحهم بذلك وحالهم في بعض الأوقات المنطبقة عليها الآية السالفة في قوله: {وقال الذين كفروا} حيث عبر بالموصول وصلته في موضع الضمير، قطعاً للأطماع عن دعائهم: {لن نؤمن} أي نصدق أبداً، وصرحوا بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة فقالوا: {بهذا القرآن} أي وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المضمنة لبقية الكتب {ولا بالذي بين يديه} أي قبله من الكتب: التوراة والإنجيل وغيرهما. بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم، فأغضبهم ذلك فقالوه: {ولو} أي والحال أنك {ترى} أي يوجد منك رؤية لحالهم {إذ} هم- هكذا كان الأصل، ولكن أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {الظالمون} أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم، والنقل بهذا القرآن المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق {موقوفون} أي بعد البعث بما يوقفهم من قدرته بأيدي جنوده أو بغيرها بأيسر أمر منه سبحانه قهراً لهم وكرهاً منهم: {عند ربهم} أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم {يرجع بعضهم} أي على وجه الخصام عداوة. وكان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله، قال القشيري: ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً {إلى بعض القول} أي بالملاومة والمباكتة والمخاصمة، لرأيت أمراً فظيعاً منكراً هائلاً شنيعاً مقلقاً وجيعاً يسرك منظره، ويعجبك منهم أثره ومخبره، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ولما كان هذا مجملاً، فسره بقوله على سبيل الاستئناف: {يقول الذين استضعفوا} أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة على سبيل اللوم والتأنيب {للذين استكبروا} أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون: {لولا أنتم} أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم {لكنا مؤمنين} أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل.
ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة، ذكر الجواب بقوله تعالى: {قال الذين استكبروا} على طريق الاستئناف {للذين استضعفوا} رداً عليهم وإنكاراً لقولهم أنهم هم الذين صدوهم: {أنحن} خاصة {صددناكم} أي منعناكم وصرفناكم {عن الهدى} ولما كانوا لا يؤاخذون بإهمال دليل العقل قبل إتيان الرسل، أشاروا إلى ذلك بقولهم: {بعد إذ جاءكم} أي على ألسنة الرسل.
ولما كان المعنى: إنا لم نفعل ذلك، حسن أن يقال: إنهم هم الذين ضلوا بأنفسهم لا بإضلالهم، فقالوا: {بل كنتم} أي جبلة وخلقاً {مجرمين} أي عريقين في قطع ما ينبغي وصله بعد إتيان الهدى مختارين لذلك كما كنتم قبله أتباعاً لنا ما ردتم ولا ردنا، ولما تضمن قولهم أمرين: ادعاء عراقتهم في الإجرام، وإنكار كونهم سبباً فيه، أشار إلى ردهم للثاني بالعاطف على غير معطوف عليه إعلاماً بأن التقدير: قال الذين استضعفوا: كذبتم فيما ادعيتم من عراقتنا في الإجرام: {وقال الذين استضعفوا} عطفاً على هذا المقدر {للذين استكبروا} ردّاً لإنكارهم صدهم: {بل} الصاد لنا {مكرُ الليل والنهار} أي الواقع فيهما من مكركم بنا، أو استعير إسناد المكر إليهما لطول السلامة فيهما، وذلك للاتساع في الظرف في إجرائه مجرى المفعول به {إذ تأمروننا} على الاستمرار {أن نكفر بالله} أي الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إتيان الرسل {ونجعل له أنداداً} أي أمثالاً نعبدهم من دونه {وأسروا} أي يرجعون والحال أن الفريقين أسروا {والندامة لما} أي حين {رأوا العذاب} لأنهم بينما هم في تلك المقاولة وهم يظنون أنها تغني عنهم شيئاً وإذا بهم قد بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون فأبهتهم فلم يقدروا لفوات المقاصد وخسران النفوس أن نسبوا بكلمة، ولأجل أن العذاب عم الشريف منهم والوضيع. قال تعالى: {وجعلنا الأغلال} أي الجوامع التي تغل اليد إلى العنق {في أعناق الذين كفروا} فأظهر موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم ذلك.
ولما كانت أعمالهم لقبحها ينبغي البراءة منها، فكانت بملازمتهم لها كأنها قد قهرتهم على ملازمتها وتقلدها طوق الحمامة فهم يعاندون الحق من غير التفات إلى دليل قال منبهاً على ذلك جواباً لمن كأنه قال: لم خصت أعناقهم وأيديهم بهذا العذاب؟: {هل يجزون} أي بهذه الأغلال {إلا ما كانوا} أي كوناً هم عريقون فيه {يعملون} أي على سبيل التجديد والاستمرار مما يدعون أنهم بنوه على العلم، وذلك الجزاء- والله أعلم- هو ما يوجب قهرهم وإذلالهم وإخزاءهم وإنكاءهم وإيلامهم كما كانوا يفعلون مع المؤمنين ويتمنون لهم.